"أور مئير".. نموذج توسع استيطاني يغيّر خريطة الضفة الغربية

"أور مئير".. نموذج توسع استيطاني يغيّر خريطة الضفة الغربية
بؤرة أور مئير الاستيطانية

في نهاية مسار ترابي قصير يتفرع عن الطريق 60، أحد أهم الشرايين التي تشق الضفة الغربية من شمالها إلى جنوبها، ترتفع تلة صغيرة تعلوها مساكن جاهزة، لا لافتة تشير إلى المكان، ولا بنية تحتية واضحة، لكن هذا الموقع المعروف باسم بؤرة "أور مئير" الاستيطانية يحمل في طياته قصة أكبر من حجمه، قصة تلخص مسار الاستيطان الإسرائيلي وتحولاته، من تجمعات مؤقتة إلى مشاريع دائمة تعيد تشكيل الجغرافيا الفلسطينية.

وفق تقرير أوردته وكالة رويترز، الأربعاء، تبدو "أور مئير" للوهلة الأولى مجرد بؤرة صغيرة تضم عددا محدودا من الكرفانات البيضاء، أقيمت بسرعة على أرض مفتوحة، هذا المشهد تكرر لعقود في الضفة الغربية، حيث يبدأ الاستيطان الإسرائيلي بخطوة صغيرة، غالبا دون قرار رسمي، ثم يتحول بمرور الوقت إلى حقيقة راسخة.

يقر أعضاء في الحكومة الإسرائيلية بأن هذه العملية ليست عشوائية، بل جزءاً من رؤية سياسية تهدف إلى منع قيام دولة فلسطينية متصلة جغرافيا، فكل بؤرة جديدة، مهما بدت متواضعة، تشكل حلقة إضافية في سلسلة تقطع أوصال الأرض التي يطمح الفلسطينيون لإقامة دولتهم عليها.

العنف كأداة للتمدد

لا يقتصر توسع البؤر الاستيطانية على البناء فقط، بل كثيرا ما يرافقه عنف مباشر ضد الفلسطينيين.

وفي محيط أور مئير، روت عائلة بدوية وفقا لوكالة رويترز أنها تعرضت لهجوم العام الماضي، حين نزل مهاجمون من البؤرة وألقوا زجاجات حارقة باتجاه خيامهم، ما أجبرهم على مغادرة أرض قريبة يملكها فلسطينيون.

تقول العائلة إنها تخشى ألا تتمكن من العودة مجددا، في ظل استمرار التهديدات وغياب أي حماية فعلية، وهذه الشهادة ليست حالة معزولة، بل واحدة من عشرات القصص التي توثق كيف يتحول العنف إلى وسيلة لفرض واقع جديد على الأرض، حيث يرحل السكان الأصليون ويحل محلهم المستوطنون.

خطاب الاحتفاء بالطرد

على منصات التواصل الاجتماعي، لا يخفي مستوطنو أور مئير نواياهم، فرسائل منشورة على قناة تحمل اسم البؤرة على تطبيق تيليغرام تحتفي بطرد رعاة بدو من المنطقة، وتعرض ذلك بوصفه إنجازا، وتظهر هذه المنشورات إصرارا واضحا على ترسيخ سيطرة دائمة على أراض يصنفها المستوطنون بأنها استراتيجية.

هذا الخطاب العلني يعكس تحولا، حيث لم يعد التوسع الاستيطاني محاطا بالصمت أو التبرير الأمني فقط، بل يقدم باعتباره حقا تاريخيا، حتى وإن كان الثمن تهجير عائلات بأكملها.

وفقا لبيانات الأمم المتحدة، يعد هذا العام من بين الأعوام الأكثر عنفا فيما يتعلق بهجمات مدنيين إسرائيليين على الفلسطينيين في الضفة الغربية، وتشير الأرقام إلى تسجيل أكثر من 750 إصابة نتيجة هذه الهجمات، في سياق يتسم بتوسع سريع للبؤر الاستيطانية في مناطق يفترض أن تشكل قلب الدولة الفلسطينية المستقبلية.

هذا التصاعد في العنف يتزامن مع تسارع غير مسبوق في وتيرة البناء الاستيطاني، ما يعزز المخاوف من أن يتحول الوضع إلى نقطة اللاعودة على صعيد حل الدولتين.

أرقام تكشف حجم التوسع

تظهر معطيات منظمة السلام الآن الإسرائيلية غير الحكومية، التي تراقب الاستيطان منذ عقود، أن عام 2025 شهد بناء 80 بؤرة استيطانية جديدة، وهذا الرقم هو الأعلى منذ بدء توثيق هذه الظاهرة في عام 1991، ما يعكس اتجاها تصاعديا واضحا.

وفي 21 ديسمبر الجاري، وافق مجلس الوزراء الإسرائيلي على إقامة 19 مستوطنة جديدة، بينها مستوطنات بدأت في الأصل كبؤر غير رسمية، ومنح هذا القرار غطاء سياسيا وقانونيا لتجمعات كانت توصف سابقا بأنها غير شرعية حتى وفق القوانين الإسرائيلية.

ولم يعد الهدف من هذا التوسع خفيا، فقد قال وزير المالية الإسرائيلي بتسلئيل سموتريتش صراحة إن الهدف من هذه الخطوات هو عرقلة قيام دولة فلسطينية، هذا التصريح يعكس تحولا في الخطاب الرسمي، حيث بات منع الدولة الفلسطينية يطرح علنا كسياسة حكومية.

سموتريتش، الذي يدفع باتجاه إضفاء الطابع الرسمي على المزيد من البؤر الاستيطانية، يمثل تيارًا يرى في الاستيطان أداة استراتيجية لا يمكن التراجع عنها، حتى لو أدى ذلك إلى تصعيد التوتر والعنف.

من بؤرة إلى مستوطنة

على مدى عقود، أقامت مجموعات من المستوطنين تجمعات على أراض في الضفة الغربية دون تفويض رسمي، وفي بعض الحالات، كانت السلطات الإسرائيلية تهدم هذه التجمعات، لكنها كثيرا ما تعود للظهور في المكان نفسه أو في موقع قريب، ومع مرور الوقت، تنتهي هذه العملية في حالات عديدة باعتراف رسمي يحول البؤرة إلى مستوطنة قائمة.

هذا المسار التدريجي يجعل من كل بؤرة جديدة أمرا واقعا يصعب التراجع عنه لاحقا، خاصة مع توفر الحماية العسكرية والبنية التحتية والدعم السياسي.

وتعتبر معظم دول العالم أن جميع أنشطة الاستيطان الإسرائيلية في الضفة الغربية غير قانونية بموجب القانون الدولي الذي ينظم أوضاع الأراضي المحتلة عسكريا، وترى هذه الدول أن نقل سكان الدولة المحتلة إلى الأراضي المحتلة يشكل انتهاكا واضحا.

في المقابل، ترفض إسرائيل هذا التفسير وتدافع عن شرعية الاستيطان، مستندة إلى روايات تاريخية وأمنية، وهذا الخلاف القانوني والسياسي يترك الفلسطينيين عالقين بين قرارات دولية لا تنفذ وواقع ميداني يزداد تأزماً.

في منشور نُشر في سبتمبر، كتب حساب يمثل مستوطني أور مئير أن المستوطنين طردوا منذ ترسيخ وجودهم 9 بؤر بدوية غير قانونية، وأعادوا 6000 دونم إلى ما وصفوه بالأيدي اليهودية.

يقع الطريق 60 في قلب الضفة الغربية، ويمتد من شمالها إلى جنوبها، مارا بعدد كبير من المدن والبلدات الفلسطينية، إضافة إلى مستوطنات إسرائيلية، ويعد هذا الطريق محوريا في مشاريع الاستيطان، إذ تسعى إسرائيل إلى تأمينه وربطه بشبكة من المستوطنات والبؤر الجديدة.

ومنذ احتلال الضفة الغربية عام 1967، استخدم الاستيطان كأداة لتغيير الواقع الديمغرافي والجغرافي، حيث بدأ بتجمعات صغيرة تحولت لاحقا إلى مدن استيطانية كبيرة، ومع صعود تيارات سياسية يمينية متشددة في إسرائيل، تسارعت وتيرة البناء وإضفاء الشرعية على البؤر، في وقت تتراجع فيه فرص التوصل إلى حل سياسي شامل، وتبقى البؤر مثل أور مئير نموذجا مصغرا لسياسة أوسع تعيد رسم مستقبل الأرض والناس في الضفة الغربية. 



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية